المفارقة التصويرية
في شعر أحمد مطر
د. كمال أحمد غنيم
أحمد مطر
لقد اهتمت البلاغة العربية القديمة بلون من التصوير البديعي القائم على فكرة التضاد، وجعلته في صورته البسيطة (طباقاً)، وفي صورته المركبة (مقابلة)، لكن الواضح أن فكرة التضاد هذه قامت على الجمع بين الضدين في عبارة واحدة ليس إلا، دون أن تشترط وجود تناقض واقعي عميق بينهما، فهي محسن شكلي جزئي هدفه التحسين البديعي الشكلي الذي لا يتجاوز مداه عبارة الأديب([i])، ويري "ميوميك" أن المفارقة قد بقيت لأكثر من قرنين من الزمان تُعد صيغة بلاغية بالدرجة الأولى، وكان للكلمة تعريفات مثل (أن يقول المرء عكس ما يعني)، أو (أن تقول شيئا وتعنى غيره)، أو (المدح من أجل الذم والذم من أجل المدح)، أو (الهزء والسخرية)([ii])، ويري أن المفارقة تنقسم إلى قسمين رئيسين يصعب الفصل بينهما، هما المفارقة اللفظية ومفارقة الموقف، ويحاول أن يبرز خصائص وعناصر المفارقة في جميع أشكالها([iii])، من أهم هذه العناصر التي قد تبرز في المفارقة (التضاد بين المظهر والمخبر)، الذي يقوم على تظاهر المرء بكونه خلاف ما هو عليه، فصاحب المفارقة قد يقول شيئاً، لكنه في الحقيقة يعني شيئاً مختلفاً تماماً، ومن عناصر المفارقة (الغفلة المطمئنة)، التي تقوم على عمى الضحية المتفاوت الدرجات من الكبرياء والغرور والقناعة الذاتية والسذاجة والبراءة، وهي غفلة مصطنعة من صاحب المفارقة فعلية لدى الضحية، وتقوم المفارقة على العنصر الكوميدي، حيث يكون تضاد المفارقة مؤلماً وكوميدياً معاً، تتضارب فيه العواطف والأفكار، ويثور الضحك لكنه يتلاشى على الشفاه، فثمة شيء نحبه يغدو موضوع سخرية بشكل قاس، حيث ندرك النكتة، لكننا نتألم منها، ومن عناصر المفارقة عنصر التجرد، الذي يقوم على الأسلوب المصطنع لدى صاحب المفارقة المتسم بالموضوعية والصفاء وعدم الحماس، كأن الأمر لا يعنيه، وهناك عنصر أخير في المفارقة هو العنصر الجمالي، حيث إن القصة الظريفة التي تحوي المكونات اللازمة لا تبعث السرور إذا أسيء سردها وكذلك الأمر في المفارقة، ويرى "ميوميك" أن هذه العناصر متداخلة في جميع الأحوال، وأن الظواهر التي تقتصر على جزء من هذه الخصائص، أو تضمها جميعا عدا قليل منها في شكل ضعيف سوف ينظر إليها على أنها ليست من المفارقة، أو أنها من أشباه المفارقة([iv]) .
ويرى على عشري زايد أن المفارقة التصويرية تكنيك فني، يستخدمه الشاعر المعاصر لإبراز التناقض بين طرفين متقابلين بينهما نوع من التناقض، وقد يمتد هذا التناقض ليشمل القصيدة بأكملها، ليس في جملة أو بيت كما في الطباق والمقابلة، ويرى أن التناقض في المفارقة التصويرية فكرة تقوم على استنكار الاختلاف والتفاوت بين أوضاع كان ينبغي أن تتفق وتتماثل([v]).
المفارقة التصويرية في شعر مطر:
ويبدو مفهوم المفارقة على هذه الصورة واضحاً في قصائد أحمد مطر، إن لم نقل بارزاً صارخاً في جميع قصائده، من ذلك قصيدة "خطاب تاريخي" التي يقول فيها:
رأيت جرذاً
يخطب اليوم عن النظافة
وينذر الأوساخ بالعقاب
وحوله
.. يصفق الذباب!([vi])
حيث يظهر عنصر التضاد بين مظهر هذا الجرذ الخطيب وجمهوره من الذباب بما يمثلانه من معاني القذارة، ومظهرهم الاحتفالي بالنظافة والحرب على الأوساخ وإنذارها بالعقاب.
وتبدو الغفلة المطمئنة واضحة في أعلى درجات غرور الجرذ وكبريائه وتبجح الجمهور ونفاقه، بينما يفتعل الشاعر صاحب المفارقة الغفلة عن الحقيقة وعدم رؤيتها، ويظهر العنصر الكوميدي واضحاً تتضارب معه العواطف والأفكار في سخرية مرة، تثير الضحك والبكاء، إذ أن الصورة تخفي وراءها بشفافية صورة الواقع العربي الأليم الذي تتحكم في مصيره أدوات قذرة من حكام وحاشية وجمهور من المنافقين لا يحسنون غير صنعة التصفيق، ويظهر عنصر التجرد في موضوعية الشاعر صاحب المفارقة وحياده وعدم تدخله في الصورة بنقدها سلباً أو إيجاباً، فهو يضع الأمر بين يدي المتلقي، كأن الأمر لا يعنيه، ويكتفي بموقف المشاهد في قوله "رأيت"، وقد ظهر العنصر الجمالي في أكثر من مظهر، في اكتمال الصورة الكلية المعتمدة على البناء التوقيعي، وفي استخدامه للبناء الدرامي القائم على السرد القصصي، وفي لغة الشاعر السهلة المعبرة عن أعماق المعاني، التي يرمي إليها في نقد الواقع العربي، ووصمه بأبشع الألفاظ والصور، ووضوح الرموز ونجاحها في أداء المعني، وتناسق موسيقي القصيدة مع الموضوع، وخصوصاً قافية القصيدة، التي جاءت على حرف الباء، الذي يناسب جو الخطابة العصماء، والتفوه بالعبارات الجوفاء الصارمة القاطعة، المعبرة شكلاً ومضموناً عن الاستبداد والتسلط، فالشفاه تنطبق مع انتهاء السطر الشعري في شكل يوحي بالقطع في الأمر، والمضمون يعبر عن استبداد الجرذ(الحاكم) المتمثل في إصداره التهديدات، وفي تصفيق الحاشية والجمهور للأوامر الغريبة المتناقضة مع أبسط حقائق الواقع.
ويكتمل القول حول هذه القصيدة الممثلة لمعظم أشعار أحمد مطر، بظهور تكنيك المفارقة التصويرية واضحاً فيها، من خلال إبراز الشاعر للتناقض بين طرفين متقابلين، يتمثلان في الجرذ وأعوانه من جهة والنظافة من جهة أخرى، أو بالأحرى في الحاكم وحاشيته من جهة والشعب الشريف المضطهد من جهة أخرى، حيث يستنكر الشاعر هذا التناقض، ويدعو إلى اتفاق الأطراف، فيستلم سدة الخطابة من هو منتمٍ إلى النظافة وعالمها، ويستلم سدة الحكم من هو منتمٍ إلى الشعب ومطالبه.
أنواع المفارقة في شعر مطر
ويلاحظ أن (ميوميك) قد نظر في تقسيمه لأنواع المفارقة إلى صاحب المفارقة وضحيتها، وجعلها بناء على ذلك عدة أنواع أهمها المفارقة اللاشخصية، ومفارقة الاستخفاف بالذات، ومفارقة الفجاجة، ومفارقة الكشف عن الذات، ومفارقة التنافر البسيط، والمفارقة الدرامية، ومفارقة الأحداث([vii])، بينما نظر علي عشري زايد في تصنيفه لأنماط المفارقة إلى طبيعة الطرفين المتناقضين، وجعلها بناءً على ذلك شكلين أساسيين، هما المفارقة ذات الطرفين المعاصرين، والمفارقة ذات المعطيات التراثية([viii])، وفيما يلي استقصاء لأنواع المفارقة التصويرية، وأساليبها المتنوعة التي وظفها الشاعر لخدمة تجربته المميزة.
المفارقة اللاشخصية:
هي طريقة في اتخاذ المفارقة لا تستند إلى أي وزن يُمنح لشخصية صاحب المفارقة، حيث يخفى نفسه وراء قناع، فكلماته وحدها، أو تعارضها مع ما نعرف، تنتج المفارقة، وهو يتميز عادة بجفاف أو صرامة في الأسلوب، وتكون النبرة نبرة متكلم عاقل ينطلق على رسله، متواضع غير عاطفي([ix]).
وقد أكثر الشاعر من اعتماد هذه الطريقة في المفارقة، حيث كان يلبس قناعاً، ويترك لكلماته المتناقضة مع الواقع تكشف ما يصوره من مفارقات، ومن ذلك قوله في قصيدة "الغزاة":
الأصوليون قوم لا يحبون المحبة.
ملأوا الأوطان بالإرهاب
حتى امتلأ الإرهاب رهبة!
ويلهم..
من أين جاءوا؟!
كيف جاءوا؟!
قبلهم كانت حياة الناس رحبة.
قبلهم ما كان للحاكم أن يعطس
إلا حين يستأذن شعبه!
وإذا داهمه العطس بلا إذنٍ
تنحى..
ورجا الأمة أن تغفر ذنبه!
لم يكن من قبلهم رعب
ولا قهر
ولا جرح
ولا قتل
ولا كانت لدى الأوطان غربة.
كان طعم المر حلواً
وهواء الخنق طلقاً
وكؤوس السم عذبة!
كانت الأوطان حقا.. مستتبة!([x]).
فعنوان القصيدة "الغزاة "لا يعطي المتلقي القدرة على تصنيفها ضمن باب المفارقة، لكن سابق معرفة المتلقي بالشاعر وآرائه قد تساعده على إدراك المفارقة، فإن كان المتلقي يتذوق شعره لأول مرة فقد تختلط عليه الأمور، ولا يبقى أمامه إلا التضاد بين المظهر والمخبر كصفة أساسية في المفارقة، ومن ذلك التناقض بين صورة الحاكم واستئذانه لشعبه حتى في العطس، وواقع الحكام الذي يتسم بالاستبداد، والتناقض بين صور المر الحلو وهواء الخنق الطلق وكؤوس السم العذبة، وواقعها الذي يخضع للناموس الكوني وصفات الأشياء، حيث يبدو واضحاً أن الشاعر يستدعي في ذهن المتلقي أكثر من صورة للواقع، تتناقض مع الإعلام والتصريحات القائمة على الادعاء والزيف، وخصوصاً إذا ما رحنا نتابع معه التهم البريئة المختلفة التي يوجهها الحكام للأصوليين، من خطابة في المسجد، وقراءة قرآن، وعبادة الله، ولبس الجبة، وزعمهم أن لهم حقا في استلام الحكم إذا ما حصلوا على أعظم نسبة، وتبدو المفارقة واضحة في الدعاء الذي يختم به قصيدته جامعاً مقدسات الأديان المختلفة البعيدة عن الإسلام في قوله:
فبحق الأب والابن وروح القدس،
وكريشنا
وبوذا
ويهوذا
تب على دولتنا منهم
ولا تقبل لهم يا رب توبة!([xi])
مفارقة الاستخفاف بالذات:
هي طريقة في اتخاذ المفارقة التصويرية، يلبس فيها صاحب المفارقة قناعاً ذا أثر إيجابي في هيئة تقمص شخصية، حيث يحمل نفسه إلى المسرح في شخص امرئ جاهل، سريع التصديق، جاد، مفرط في الحماس، يعمل على التقليل من قدر نفسه، مستغلاً ما يعطيه من انطباع عن نفسه ليكون جزءاً من وسيلة المفارقة([xii])، وقد وظف الشاعر هذه الطريقة في التصوير مرات عديدة، منها قوله في قصيدة "صدفة ":
شعرت هنا اليوم
بالصدمة.
فعندما
رأيت جاري قادماً
رفعت كفي نحوه
مسلماً
مكتفياً بالصمت والبسمة
لأنني أعلم أن الصمت
في أوطاننا.. حكمة.
لكنه رد على قائلاً:
عليكم السلام والرحمة.
ورغم هذا
لم تسجل ضده تهمة!
* *
الحمد لله على النعمة
من قال ماتت عندنا
حرية الكلمة!([xiii]).
فقد صور الشاعر صاحب المفارقة نفسه في شخص امرئ ساذج، سريع التصديق، مقللاً من قدر نفسه، فهو لا يتكلم حتى في المواضيع الهينة، ويلتزم الصمت شعاراً وحكمة، تصل إلى أعلى مراتب الجهل والإفراط في السذاجة، ويظهر الدهشة من رد جاره بكلمات التحية والسلام، ويرى في ذلك أكبر دليل على حرية الكلمة وقدرة المرء في التعبير عن نفسه، وهو يستغل هذا الانطباع بالدهشة والسذاجة لينتج المفارقة، ويكشف فظاعة الواقع العربي، الخاضع لعملية كبت حريات بشعة لا رحمة فيها.
مفارقة الفجاجة:
تعتمد هذه الطريقة على تخلى صاحب المفارقة عن مكانه لساذج أو فج، يُراد أن يُنظر إليه على إنه غير صاحب المفارقة، رغم أنه يتصرف نيابة عنه دون علمه بالأمر، وقد يسأل هذا الفج أسئلة أو يدلي بتعليقات لا يدرك مغزاها الكامل([xiv])، وقد وظف الشاعر هذه المفارقة التصويرية في عدد من قصائده منها قصيدة "مزايا وعيوب ":
نبح الكلب بمسئول شؤون العاملين:
سيدي إني حزين.
هاك.. خذ طالع ملفي
قذر من تحت رجلي إلى ما فوق كتفي
ليس عندي أي دين.
لاهث في كل حين.
بارع في الشم والنبح وعقر الغافلين.
بطل في سرعة العدو
خبير في اقتفاء الهاربين.
فلماذا يا ترى لم يقبلوني
في صفوف المخبرين؟!
هتف المسئول: لكن
فيك عيبان يسيئان إليهم
أنت يا هذا وفي وأمين!([xv]).
إذ إن الشاعر صاحب المفارقة يتخلى عن مكانه، ويترك الزمام لكلب ساذج فج لا يعي حقيقة ما حوله، ويدعه يسأل عن عدم قبوله في صفوف المخبرين، على الرغم من مميزاته التي تتوافق مع هؤلاء الرجال، فهو قذر مثلهم، لاهث مثلهم، بارع في عقر الغافلين الذين لا علاقة لهم بشيء، خبير في اقتفاء الهاربين، ويكشف بأسئلته هذه عن واقع المخبرين وانعدام ضمائرهم، وخصوصاً عند تقديم المسئول لمبررات عدم القبول، المتمثلة في الوفاء المشهور عن الكلاب وأمانتهم، وهى صفات يشترط أن لا توجد في رجال المخابرات!
مفارقة الكشف عن الذات:
تعتمد هذه الطريقة في التصوير على انسحاب صاحب المفارقة تماماً، وخلقه شخصيات تجلب على نفسها مفارقات دون وعي منها، ويغلب أن تكون الضحية في هذه المفارقة أعمى في كبرياء وواثقاً في حمق([xvi])، وقد وظف الشاعر هذه الطريقة في أكثر من موضع، ومن ذلك قصيدة "تمرد"، التي يترك المجال فيها لشخصيات هي الحائط والمسمار والمطرقة، فالحائط يحتج على اختراق المسمار له، ويحاول أن يقنعه بعدم الرضوخ للمطرقة، التي تريد تعليق صورة الحاكم، ويذكره بأنهما خلقا للخير، المتمثل في تكوين الشبابيك والأبواب، وحمل الرفوف والكتب، وحماية الأسر، فيقتنع المسمار، ويراوغ المطرقة حتى ينكسر في عملية رفض لحمل صورة الحاكم الظالم:
خارج المنزل كانت صورة الغر الأغر
فوق أعناق الجماهير
وما بين أياديهم
وفي كل ممر.
والهتافات له هاطلة مثل المطر.
* *
ضحك الحائط:
لا نرضى بأن نحمل عارا
وإذا، يوماً، حملناه اضطرارا
فعلى أيدي البشر.
ألف شكر لك يا رب على أنا
حديد وحجر!([xvii]).
ويمثل الحائط والمسمار القوى الواعية في المجتمع، وتمثل المطرقة أدوات الظلم وأجهزته، بينما تبقي الجماهير الضحية العمياء عن الحقيقة، الواثقة في حمق، وبذلك تظهر المفارقة بين موقفها وموقف قوى الوعي؛ الذي قد تدركه أبسط العقول الممثلة بالحائط والمسمار.
مفارقة التنافر البسيط:
تعتمد هذه المفارقة على وجود تجاور شديد بين قولين متناقضين، أو صورتين متنافرتين من غير تعليق([xviii])، وقد برع الشاعر في توظيف هذه المفارقة في أكثر من موضع، من ذلك قوله في خاتمة قصيدة "عاش يسقط ":
هزي إليك بجذع مؤتمر
يساقط حولك الهذر:
عاش اللهيب
..ويسقط المطر!([xix]).
حيث صور الشاعر تخاذل الزعماء في إنقاذ القدس، وعجز الشعوب عن تجاوزهم من أجل تحريرها، ويسخر من المؤتمرات التي يعقدها القادة، ويجمع بين صورة اللهيب الذي يمثل جموع الشعب، والمطر المتساقط عليه ممثلاً للقادة، وهو يصل من خلال هذه المفارقة إلى صعوبة قيام الشعوب بتحرير القدس طالما بقي هؤلاء القادة المتخاذلون في سدة الحكم.
ومن نماذج مفارقة التنافر البسيط قوله في قصيدة "مقيم في الهجرة ":
عمري لا يدري كم عمري!
كيف سيدري؟!
من أول ساعة ميلادي
وأنا هجري!([xx]).
فقد صور الشاعر غربته عن وطنه، وامتدادها لفترات طويلة، دون أن تبدو لها نهاية، وجمع في ذلك بين التقويم الميلادي والتقويم الهجري في سخرية تركها دون تعليق، فهو منذ مولده مكره على الهجرة نتيجة الاستبداد والطغيان، وكأن الهجرة منذ الميلاد ناموس يشبه ناموس التقويمين المتنافرين، وهذا الناموس لا مفر منه، فمن المستحيل أن يجتمع التقويمان على أزمان محدودة وتوقيتات معينة.
المفارقة الدرامية:
تشكل هذه المفارقة قوام المفارقة في المسرح، وهي لا تقتصر بالطبع على الدرامة، فقد ترد في الملاحم والشعر القصصي، وهي تقوم على جهل الضحية بالموقف الذي هي فيه وتبدو أبلغ أثراً عندما لا يكون المتلقي وحسب؛ بل شخص أخر في التمثيلية أو القصة، على وعي بجهل الضحية([xxi])، وقد وظف الشاعر طريقة التصويرهذه في العديد من قصائده، من ذلك قصيدة (يحيا العدل):
حبسوه
قبل أن يتهموه!
عذبوه
قبل أن يستجوبوه!
أطفأوا سيجارة في مقلتيه
عرضوا بعض التصاوير عليه:
قل.. لمن هذه الوجوه؟
قال لا أبصر.
..قصوا شفتيه!
طلبوا منه اعترافاً
حول من قد جندوه.
لم يقل شيئاً
ولما عجزوا أن ينطقوه
شنقوه!
* *
بعد شهر برأوه!
أدركوا أن الفتى
ليس هو المطلوب أصلاً
بل أخوه.
ومضوا نحو الأخ الثاني
ولكن.. وجدوه
ميتاً من شدة الحزن
فلم يعتقلوه!([xxii])
فالمتهم الضحية لا يدرك سبباً لاعتقاله وتعذيبه، ورجال التحقيق يقتلعون عينيه ويطلبون منه رؤية التصاوير، ويقصون شفتيه ويطلبون منه النطق بالاعتراف، وفي نهاية الأمر يقومون بشنقه، ويتبين بعد ذلك أنه بريء، فهي مفارقات درامية متتالية، حيث إن المتلقي يعلم تماما أن المتهم عاجز عن تلبية طلبات المحققين المتناقضة مع أفعالهم السابقة، وقد زاد من جمال هذه الصورة أن الشاعر ترك جزءاً من الحقيقة مجهولاً، وقام بكشفه ليحقق بذلك أقصى درجات الإدهاش لدى المتلقي.
مفارقة الأحداث:
تقوم مفارقة الأحداث على تعبير الضحية عن اعتماده على المستقبل، لكن تطوراً في الأحداث يقلب خططه، ويسير في خطوات تبعد به عن الهدف، وتكون الوسيلة التي يتجنب بها شيئاً هي الوسيلة التي توصله إلى ذلك الشيء([xxiii])، ففي قصيدة "وظيفة قلم "([xxiv]) يصور الشاعر حكايته مع القلم الذي يمتلكه، فيبحث عن دفتر ويقوده بحثه عن الأمن إلى المخفر، ويجدهم هناك يبحثون عن قلم، فيتطوع ليقدم لهم قلمه متوقعاً أن يشكروه لخدمته على الأقل، لكنه يُفاجأ بهم يأمرونه بالتوقيع على المحضر، وهو يوحي من خلال ذلك بأن الكلمة تهمة، وأن القلم سلاح يحارب في العالم العربي.
وفي قصيدة "الهارب" يضيق صدر الشاعر بالرعب الذي يحيط به من كل جانب، فيهرب للصحراء ليعبر بحرية عن آرائه دون أن يسمعه أحد، ولكن الأحداث تقوده إلى عكس ما يتمنى :
هربت للصحراء من مدينتي
وفي الفضاء الرحب
صرخت ملء القلب:
الطف بنا يا ربنا من عملاء الغرب
الطف بنا يا رب
سكت.. فارتد الصدى:
خسأت يا ابن الكلب!([xxv]).
حيث يصور الشاعر شدة الحصار المفروض على الشعب، ورصد المخبرين له فصدى صوت الإنسان صار مخبراً يتجسس عليه، ويحاول الشاعر أن يفر بسره إلى الصحراء حيث لا أحد يسمع شكواه، ولا مخبر يسجل دعاءه، لكن الأحداث تقوده إلى عكس رغبته، حيث تُسمع شكواه، ويُسجل دعاؤه، ويُوبخ على تهمته ويدفع ثمنها.
المفارقة ذات الطرفين المعاصرين:
لهذا الشكل من أشكال المفارقة نمطان أساسيان، من حيث أسلوب مقابلة كل من طرفي المفارقة بالآخر، نمط يضع الشاعر فيه الطرف الأول مكتملاً بكل عناصره ومقوماته، في مواجهة الطرف الثاني مكتملاً أيضا بكل عناصره ومقوماته، ومن خلال المقابلة بينهما تُحدث المفارقة تأثيرها، ويبرز التناقض بين الطرفين واضحاً وفادحاً([xxvi])، وقد وظف الشاعر هذا الشكل من أشكال المفارقة في عدة قصائد، منها قصيدة "الجزاء" التي يقول فيها:
في بلاد المشركين.
يبصق المرء بوجه الحاكمين.
فيُجازى بالغرامة!
ولدينا نحن أصحاب اليمين
يبصق المرء دماً تحت أيادي المخبرين
ويرى يوم القيامة
عندما ينثر ماء الورد والهيل
ـ بلا إذنٍ ـ
على وجه أمير المؤمنين!([xxvii]).
حيث يقابل الشاعر بين حالتين معاصرتين من حالات التعامل بين الحاكم والمحكوم؛ الحالة الأولي في بلاد الغرب الذي لا ينتمي إلى الإسلام، حيث الحريات المكفولة، والنظم التي تُقيم الذنب وتجازى على مقداره دون اشتطاط في الحكم، والحالة الثانية في بلاد المسلمين اليوم حيث الحريات المصادرة، والنظم الوضعية القائمة على الأهواء، التي لا تعاقب على الذنوب بما يكافئها، بل تجتهد في اصطناع التهم التي لا أساس لها، وتبدع في كيفية الجزاء. ويُلاحظ أن الشاعر قد استخدم الألفاظ التراثية (المشركين ـ أصحاب اليمين ـ يوم القيامة ـ أمير المؤمنين)، ليعطى أبعاداً أعمق لمفارقته، تقوم على الوعي بجذور الحضارات، والتذكير بأصولها، والمقابلة بين هذه الأصول والنتائج، وبذلك يكون الشاعر قد أبرز من خلال مقابلة الوجه الثاني ـ بكل ملامحه ـ بالوجه الأول ـ بكل ملامحه أيضا ـ فداحة المفارقة، وجعل إيحاؤها يتجاوز في الطرفين الإمكانات التي يستطيع تصويرها كل طرف منفرداً.
أما النمط الثاني من نمطي المفارقة ذات الطرفين المعاصرين، فإن الشاعر لا يقدم كلاً من الطرفين متكاملاً في مقابل الأخر، وإنما يفتت كل منهما إلى مجموعة من العناصر الجزئية التفصيلية، ثم يضع كل عنصر منها في مقابلة ما يناقضه من عناصر الطرف الآخر، حيث تصبح المفارقة في نهاية الأمر مجموعة من المفارقات الجزئية([xxviii])، وقد وظف أحمد مطر هذا الشكل في عدة قصائد منها قصيدة "الجدار "، التي يقابل فيها بين حالته في السجن، وحالة حارسه، أو بمعنى آخر بين الحق المظلوم والشر الظالم، مساوياً بين حالة الاثنين من حيث المعاناة من جدران السجن وقضبانه، بل يحاول أن يوحي أن حالة الحق أفضل بكثير، لأنه يرى النور من خلال كوة باب الزنزانة، بينما يرى الحارس من خلالها الظلام:
وقفت في زنزانتي
أقلب الأفكار:
أنا السجين ها هنا
أم ذلك الحارس بالجوار؟
فكل ما يفصلنا جدار
وفي الجدار فتحة
يرى الظلام من ورائها
وألمح النهار!
* *
لحارسي، ولى أنا.. صغار
وزوجة ودار
لكنه مثلى هنا
جاء به وجاء بي قرار
وبيننا جدار
يوشك أن ينهار!([xxix]).
فقد جعل الشاعر كلاً من الطرفين يتفتت إلى مجموعة من العناصر، التي يقوم كل عنصر منها بإزاء العنصر المقابل له من الطرف الآخر، فالشاعر السجين يقابله الحارس بالجوار، وهو يرى من خلال فتحة الجدار نهاراً مشرقاً، بينما يرى الحارس من خلالها ظلاماً قاتماً، والشاعر له عائلة تقلق عليه، وكذلك الحارس له زوجة ودار، والاثنان جاء بهما قرار، وقد جعل الشاعر جدار السجن يُشعره بهذه المفارقة، وألقى عليه ملامح الإنسانية والحكمة البالغة وهو يُذكره بالحقيقة النابعة من هذه المفارقة:
حدثني الجدار
فقال لي: إن الذي ترثي له
قد جاء باختياره
وجئت بالإجبار
وقبل أن ينهار فيما بيننا
حدثني عن أسدٍ
سجانه حمار!([xxx]).
فالمفارقة تكتمل في جزئيات أخرى هي أن الشاعر قد جاء بالإجبار، بينما جاء الحارس بالاختيار، لكن المفارقة الأكثر إثارةً اقتناعُ الجدران بأن الشاعر أسد يسجنه حمار، وفي هذه المفارقة سخرية تضحكنا مع الشاعر، لكنها سرعان ما تتحول إلى بكاء لأنها مفارقة مريرة وحقيقة سوداء.
ويُلاحظ أن الشاعر قد أبرز التناقض على مستويين، تم أولاُ على مستوى جزيئات كل من الطرفين، وتحقق بعد ذلك من خلال الجمع بين هذه الجزيئات على مستوى القصيدة التي تتألف منها، وبذلك يكون قد رسخ معنى المفارقة في وجدان المتلقي أكثر من مرة، مما زاد هذا المعنى عمقاً ووضوحاً.
المفارقة ذات المعطيات التراثية:
المفارقة التصويرية ذات المعطيات التراثية تكنيك فني يقوم على إبراز التناقض بين بعض معطيات التراث وبين بعض الأوضاع المعاصرة([xxxi])، وهي تقوم على أنماط ثلاثة، منها المفارقة ذات الطرف التراثي الواحد، والمفارقة ذات الطرفين التراثيين، والمفارقة المبنية على نص تراثي .
النمط الأول:
يقابل الشاعر في المفارقة ذات الطرف التراثي الواحد بين طرف تراثي، وطرف آخر معاصر، ولهذا النمط ثلاث صور أساسية؛ الصورة الأولى منه يصرح فيها الشاعر بطرفي المفارقة التراثي والمعاصر، محتفظاً لكل منهما بتميزه واستقلاله عن الآخر([xxxii])، من ذلك قصيدة "جاهلية " التي يقول فيها:
في زمان الجاهلية
كانت الأصنام من تمر
وإن جاع العباد
فلهم
من جثة المعبود زاد.
وبعصر المدنية
صارت الأصنام
تأتينا من الغرب
ولكن.. بثياب عربية
تعبد الله على حرف
وتدعو للجهاد.
وتسب الوثنية!
وإذا ما استفحلت
تأكل خيرات البلاد
وتحلى بالعباد!
* *
رحم الله زمان الجاهلية([xxxiii])
فالشاعر يصور حالة العبودية في الجاهلية لأصنام من التمر لا إرادة لها، ويصور في الطرف المقابل بشكل مستقل حالة العبودية في عصرنا ـ عصر المدنية ـ لأصنام مصدرة من دول الغرب على هيئة زعامات منقادة لإرادتها، وهو يصرح بالطرفين دون أن يخلطهما معاً، معطياً لكل منهما ملامحه وسماته الخاصة، فالصورة التراثية تعبر عن حقائق تاريخية مثبتة دون زيادةٍ أو نقصان، وفي الصورة المعاصرة تبدو بعض الملامح التراثية مثل(الأصنام ـ الوثنية)، وقد وظفها الشاعر ليعطي بعداً أعمق في المفارقة بين الحالتين، وهو يركز على أن أصنام التمر كان لها بعض الفائدة، وأما أصنام العصر فإن لها انتماء لأعداء الأمة، وتمتلك صفات المخادعة والغدر، وهى كارثة تمحق خيرات البلاد وتبطش بالشعب، ولهذا كان لابد من تعليق ساخر مر (رحم الله زمان الجاهلية!) يفجر المفارقة، ويبرز عمقها، إذ أن العصور المظلمة أصبحت حلماً وجنة مفقودة بالقياس إلى واقع اليوم المرير.
وأما الصورة الثانية من المفارقة ذات الطرف التراثي الواحد، فيستدعي فيها الشاعر الطرف الثاني إلى وعي المتلقي دون أن يصرح بملامحه التراثية، معتمداً على كونها مضمرة في وجدان المتلقي، وبدلاً من التصريح بها يمنح الشاعر هذا الطرف التراثي الملامح الخاصة بالطرف المعاصر والمناقضة لملامحه التراثية الحقيقة، وقد وظف أحمد مطر هذا التكنيك الفني في قصيدة "الدولة "، إذ استدعى شخصية قبيلة "خيبر" اليهودية، واعتمد على ما يضمره المتلقي في وجدانه حولها ـ فهي القبيلة الذي غدرت بالنبي صلى الله عليه وسلم، ونقضت عهده، فحاربها واستأصل شأفة اليهود فيها، وكانت المعركة معها نهاية المطاف لليهود في المدينة، حيث لم يدخلوها من ذلك الوقت ـ ثم يمنح هذه الشخصية المعبرة عن اليهود ملامحهم في هذا العصر وواقعهم السياسي القائم ليس على الانتصار وحسب، بل على الغطرسة وقمة التفوق والانتصار:
قالت خيبر:
شبران.. ولا تطلب أكثر.
لا تطمع في وطن أكبر.
هذا يكفي
الشرطة في الشبر الأيمن
والمسلخ في الشبر الأيسر.
إنا أعطيناك "المخفر" !
فتفرغ لحماسٍ وانحر.
إن النحر على أيديك سيغدو أيسر!([xxxiv]).
ويلاحظ هذا التناقض بين الملامح الحقيقية المضمرة لصورة اليهود في معركة خيبر، والصورة المعاصرة، ومن خلال التفاعل بين الصورتين تبدو المفارقة عميقة مؤلمة، فهذا الواقع المشرق للأمة الإسلامية في الماضي يكشف مرارة الواقع المعاصر والسقوط المأساوي الذي وصلت إليه، وما كانت هذه المرارة الفظيعة لتظهر واضحة بجلاء، لولا المفارقة البارعة، التي مزج فيها الشاعر ملامح الأمس بملامح اليوم.
وأما الصورة الثالثة من المفارقة ذات الطرف التراثي الواحد، فهي عكس الصورة الثانية، حيث يستدعي الشاعر فيها الطرف المعاصر للمفارقة دون أن يصرح بأي من ملامحه، بل يضفي عليه ملامح الطرف التراثي سلباً، حيث يربط هذه الملامح التراثية بالطرف المعاصر عن طريق نفيها عنه([xxxv])، وقد وظف هذا التكنيك الفني في قصيدة "قف ورتل سورة النسف على رأس الوثن "، حيث استدعى فيها شخصية الشاعر صاحب كلمة الحق في الواقع المعاصر الراغب في الهجرة نتيجة الاضطهاد والتعذيب، من خلال قصة هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة، ولم يصرح الشاعر بملامح الطرف المعاصر وظروف الرغبة في الهجرة وملابساتها، بل راح ينفي عنه الملامح التراثية لقصة هجرة النبي وملابساتها، حيث إن الصورة المعاصرة لا تتغير في مقابل الطرف التراثي، لكن تتحقق المفارقة عن طريق سلب ملامح الطرف التراثي عن الطرف المعاصر:
سترى غاراً فلا تمشِ أمامه
ذلك الغار كمين
يختفي حين تفوت
وترى لغماً على شكل حمامة
وترى آلة تسجيل
على هيئة بيت العنكبوت
تلقط الكلمة حتى في السكوت
ابتعد عنه ولا تدخل.. وإلا ستموت
قبل أن يلقي عليك القبض
فرسان العشائر!([xxxvi])
ولما كانت الهجرة في هذا العصر مستحيلة الحدوث، لأن الغدر قد عشش في كل مكان، فقد نجح الشاعر في توظيف مفردات قصة الهجرة وعناصرها لتصوير الواقع من خلال سلب ملامحها المعروفة، وإلباسها ملامح الواقع المعاصر، فالهجرة هنا ليست هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، بل هجرة الشاعر الذي يواجه آلة الحرب العصرية بإمكاناتها، كما واجه النبي صلى الله عليه وسلم آلة الحرب والطغيان في عصره، لكن حالة الشاعر أصعب بكثير، فقد وجد النبي صلى الله عليه وسلم من يناصره ولا يغدر به، ووجد في الصحراء متسعاً للفرار والاختباء، وقد موه أحد الرعاة على أعدائه بخطوات قطيعه الذي أزال آثار خطاه، واستقبله الأنصار ونساؤهم بالغناء والترحيب، وتلقف المؤمنون آيات الله من فمه يحفظونها في صدورهم، ويطبقونها في معاملاتهم، وكان قد وجد الفدائي على بن أبى طالب لينام في فراشه، وأبا بكر الصديق رفيقاً في هجرته، ورجالاً مثل عمار بن ياسر يرفضون النيل منه، على الرغم من صنوف العذاب إلا بعد إكراه شديد وتعذيب لا يحتمل، ووجد العون من الله متمثلا في حكاية الغار والحمامة وبيت العنكبوت والرمال التي تبتلع أقدام متتبعيه، لكن الشاعر هنا قد انقلبت عليه هذه الأمور فغدر به الجميع، وطعنه الأصدقاء، وخانته الصحراء ورمالها، والغار والعنكبوت والحمامة، ولم يجد أنصاراً وإنما وجد جواري يتغنين بهجائه ورُفضت قصائده وحُوربت فلم يجرؤ على طباعتها ناشر، وخانه من نام في فراشه، ومن رافقه في طريقه، واعترف عليه أصحابه دون ضغط وإكراه، ولهذا كانت الهجرة خياراً مرفوضاً لدى الشاعر، فلا خيار أمامه سوى الثورة على الواقع ونسف أصنام العصر بكميات لا نهاية لها من البارود والقنابل.
ويُلاحظ أن الشاعر وإن كان يتحدث عن صورة الهجرة المعاصرة ورأيه فيها، إلا أنه وظف معطيات الصورة التراثية لهجرة النبي صلى الله عليه وسلم، واستخدم مفرداتها وعناصرها (الصحراء، المدينة، ضرب الدفوف والشدو، الناقة، الإيمان، الآيات، الأصحاب، نام بمأواك، رفيق الدرب، ابن من نامت على جمر المال، الغار، الحمامة، بيت العنكبوت، فرسان العشائر)، لكنه سلب ملامحها الحقيقية وأضفى عليها ملامح الواقع المرير، أو بتعبيرٍ آخر نفاها عن الطرف المعاصر.
وقد يعمد الشاعر في بعض الأحيان إلى الجمع بين أكثر من صورة من هذه الصور الثلاث، ومن ذلك قصيدة "القبض على مجنون ميت " التي يدور محورها حول شخصية الصحابي الجليل "أبو ذر الغفاري"، حيث ساعد على ذلك استدعاء هذه الشخصية بملامحها التراثية وبعثها حية في الواقع المعاصر، ومن هنا ظهرت الصورة الأولى من خلال تصريح الشاعر بطرفي المفارقة التراثي والمعاصر محتفظاً لكل منهما بتميزه واستقلاله عن الآخر، ومن ذلك تصويره لشخصية "أبو ذر" بملامحه المشهورة:
لاح لي في مسجد النور
على غير انتظارِ
يلهب الموكب بالعزم
ومن عينيه ينثال بريق الانتصارِ
راكضاً بين الجموع
هاتفاً: أهلكنا سيف الخضوع
لا رجوع
لا رجوع
آن للجائع أن يشهر للمتخم سيفه
آن أن يشطره نصفين
كي يأكل عند الجوع نصفه
ثم يرمي نصفه الثاني
طعاماً للضواري!([xxxvii]).
ثم إذا به ينقل لنا صورة القمع المعاصر بمفرداته (الانتشار، قوات الطوارئ، الرصاص.. إلى آخره)، معطيا هذا الطرف ملامحه الخاصة والمستقلة:
قبل بدء الانتشار
طرأت في ساحة المسجد قوات الطواري
هطل الموت رصاصاً
وعصياً
وحجاراً
وعلت في هامة الأفق
سحابات دخان وغبارِ
وأطل الليل من ثوب النهارِ
وتلفت
فلم ألمح صديقي بجواري!([xxxviii]).
وقد ظهرت الصورة الثانية من المفارقات ذات الطرف التراثي الواحد، في بعض جوانب القصيدة، حيث استدعى الشاعر شخصية أبي ذر إلى وعي المتلقي دون التصريح بملامحه التراثية، معتمداً على كونها مضمرة في وجدانه، وبدلا من التصريح بها منح الشاعر هذا الطرف التراثي الملامح الخاصة بالطرف المعاصر، ومن ذلك ألفاظ الثورة( أن يشطره نصفين، يأكل عند الجوع نصفه..) والتكلم بلسان العصر ولغة العامة (ياللي هنا دستور) في قوله:
ومضي اليوم
ولما أقبل الليل
تهادى نحو داري
حاسر الرأس، جريحاً، نصف عارِ.
طرق الباب، ونادى هامسا:
"ياللي هنا.. دستور"
ناديت: حذار
ألغي الدستور و الشعب
بمرسوم وزاري.([xxxix])
النمط الثاني:
تتم عملية المفارقة التصويرية ذات الطرفين التراثين على مستويين، حيث تتم أولاً بين هذين الطرفين من جهة، وتتم ثانياً بين الدلالة التراثية لأحدهما والدلالة المعاصرة الرمزية من جهة أخرى، وبذلك تزداد المفارقة عمقاً وتأثيراً عن طريق هذه المقابلة المزدوجة([xl])، من ذلك قصيدة الشاعر "قمم باردة" التي يقول فيها:
قمة أخرى..
وفي الوادي جياع تتنهد
قمة أخرى..
وقعر السهل أجرد.
قمة أعلى ..وأبرد
يا محمد
يا محمد
يا محمد
ابعث الدفء
فقد كاد لنا عزى..
وكدنا نتجمد!([xli])
فالمقابلة تتم في المستوى الأول بين طرفين تراثيين متناقضين هما محمد صلى الله عليه وسلم، وعزى صنم من أصنام قريش وآلهتها، ومحمد هو الصورة المشرقة للحق والعدل التي يفتقدها الشاعر في هذا العصر، و"عزى" هو الصورة المظلمة للجهل والبغي، وهو يرمز به عن قريش وقادتها، وهذه المقابلة بين الطرفين التراثيين تستدعي العديد من الأحداث والصور في ذهن المتلقي، فهما طرفان غنيان بالإيحاءات والإشارات.
ويضفي الشاعر على شخصية "عزى" ملامح مدلول رمزي معاصر، هو قادة الأمة الذين يتآمرون عليها، ويربط بين الطرفين التراثيين والطرف المعاصر بالقمة التى تثير البرد، ويصل بذلك إلى المقابلة في المستوى الثاني بين الأطراف التراثية من جهة والأطراف المعاصرة من جهة أخري، مما يزيد المفارقة غنىً وعمقاً، ويرسخ إحساس المتلقي بفظاعة المفارقة وقوتها، وخصوصاً بتوظيفه لتكرار النداء "يامحمد"، الذي أوحى بعمق المأساة وضخامة حجمها.
النمط الثالث:
تعتمد المفارقة المبنية على نص تراثي على تحوير الشاعر في النص المقتبس أو المضمون، رغبةً في توليد دلالة معاصرة تتناقض مع الدلالة التراثية للنص التي ارتبطت به في وجدان المتلقي، ومن خلال المقابلة بين المدلولين التراثي والمعاصر تنتج المفارقة([xlii])، من ذلك تحوير الشاعر لأبيات "صفى الدين الحلي" المشهورة حيث يقول:
واستشهدوا الغرب: هل خاب الرجا فينا؟
سلوا بيوت الغواني عن مخازينـــا
خضر موائدنا، حمـــــر ليالينـــــــــــا!([xliii])
سود صنائعنا، بيض بيارقنــــــــــا
حيث إن الشاعر يصور الوضع العربي المتردي، من خلال استدعاء النص التراثي المشهور في الفخر الذي يعبر عن الماضي المشرق، فلا يعتمد على توظيف شخصية أو حدث، وإنما يعتمد على تحوير النص التراثي لتصبح "الرماح العوالي" بيوت الغواني، وتصبح المعالي "مخازينا"، وتصبح السيوف "البيض" الغرب، وتصبح "بيض" الصنائع سوداً، وخضر "المرابع" خضر الموائد، وحمر "المواضي " حمر الليالي، وبذلك تتحول صورة الفخر المشرقة، والماضي الرائع، إلى هذه الصورة المتردية من السقوط والهزيمة والضياع، وهكذا تتحقق المفارقة من خلال هذا التناقض الفظيع بين مدلول النص التراثي والمدلول الجديد، الذي اكتسبه بعد التحوير، ويتم ذلك كله في وجدان المتلقي ووعيه.
ومن نماذج هذه المفارقة التراثية ذلك التحوير الزاخر في قصيدة "بلاد مابين النحرين" الطويلة، في نصوص قرآنية متعددة، تكاد تنتشر في كل سطرٍ من سطورها، ومن ذلك آيات سورة الكهف الذى تتحدث عن أصحاب الكهف وفرارهم بدينهم، في قول الشاعر:
ولما أوى الفتية المؤمنون
إلى كهفهم
كان في الكهف قبلهم مخبرون!
ظننتم، إذن، أننا غافلون؟
كذلك ظن الذين أتوا قبلكم
فاستجبنا..
ولو تعلمون
بما قد أُعد لهم من قوارير
كانت قوارير منصوبةً
فوقها يقعدون([xliv]).
فأصحاب الكهف في النص القرأني آية من آيات الله إذ يمكثون عصوراً متعاقبة نائمين في الكهف، الذي لجأوا إليه هرباً من ظلم الحاكم، لكن أصحاب الكهف في هذا العصر بعد التحوير الذى أجراه الشاعر يعيشون في عصر الرصد وأجهزة الاستخبارات التى تسمع صوت النملة وترصد وعي الغفلة، لذلك فإنهم يُعتقلون ويُسامون صنوف العذاب، والمفارقة واضحة بين المدلول التراثي للنص القرآني والمدلول الجديد الذي اكتسبه النص من خلال التحوير.
ويُلاحظ أن الشاعر كان إيجابياً في تعامله مع التراث، فهو لا يقلب الرموز السلبية إلى إيجابية أو الرموز الإيجابية إلى سلبية، وأما عن توظيفه لبعض المصطلاحات الإسلامية مثل(أمير المؤمنين، الخليفة، البيت الحلال...)، فقد كان يستخدمها من أجل السخرية من الواقع الجديد، وإبراز فداحة المفارقة بين الماضي المشرق والحاضر الأليم القاتم، ومما يحسب للشاعر أنه في استناده إلى التراث لم يكن من أجل الهروب والسلبية، وإنما من أجل محاكمة الواقع والتحريض على تغييره.
(عن كتاب: عناصر الإبداع الفني في شعر أحمد مطر، للدكتور: كمال أحمد غنيم، القاهرة: مكتبة مدبولي، ط1، 1998.)
في شعر أحمد مطر
د. كمال أحمد غنيم
أحمد مطر
لقد اهتمت البلاغة العربية القديمة بلون من التصوير البديعي القائم على فكرة التضاد، وجعلته في صورته البسيطة (طباقاً)، وفي صورته المركبة (مقابلة)، لكن الواضح أن فكرة التضاد هذه قامت على الجمع بين الضدين في عبارة واحدة ليس إلا، دون أن تشترط وجود تناقض واقعي عميق بينهما، فهي محسن شكلي جزئي هدفه التحسين البديعي الشكلي الذي لا يتجاوز مداه عبارة الأديب([i])، ويري "ميوميك" أن المفارقة قد بقيت لأكثر من قرنين من الزمان تُعد صيغة بلاغية بالدرجة الأولى، وكان للكلمة تعريفات مثل (أن يقول المرء عكس ما يعني)، أو (أن تقول شيئا وتعنى غيره)، أو (المدح من أجل الذم والذم من أجل المدح)، أو (الهزء والسخرية)([ii])، ويري أن المفارقة تنقسم إلى قسمين رئيسين يصعب الفصل بينهما، هما المفارقة اللفظية ومفارقة الموقف، ويحاول أن يبرز خصائص وعناصر المفارقة في جميع أشكالها([iii])، من أهم هذه العناصر التي قد تبرز في المفارقة (التضاد بين المظهر والمخبر)، الذي يقوم على تظاهر المرء بكونه خلاف ما هو عليه، فصاحب المفارقة قد يقول شيئاً، لكنه في الحقيقة يعني شيئاً مختلفاً تماماً، ومن عناصر المفارقة (الغفلة المطمئنة)، التي تقوم على عمى الضحية المتفاوت الدرجات من الكبرياء والغرور والقناعة الذاتية والسذاجة والبراءة، وهي غفلة مصطنعة من صاحب المفارقة فعلية لدى الضحية، وتقوم المفارقة على العنصر الكوميدي، حيث يكون تضاد المفارقة مؤلماً وكوميدياً معاً، تتضارب فيه العواطف والأفكار، ويثور الضحك لكنه يتلاشى على الشفاه، فثمة شيء نحبه يغدو موضوع سخرية بشكل قاس، حيث ندرك النكتة، لكننا نتألم منها، ومن عناصر المفارقة عنصر التجرد، الذي يقوم على الأسلوب المصطنع لدى صاحب المفارقة المتسم بالموضوعية والصفاء وعدم الحماس، كأن الأمر لا يعنيه، وهناك عنصر أخير في المفارقة هو العنصر الجمالي، حيث إن القصة الظريفة التي تحوي المكونات اللازمة لا تبعث السرور إذا أسيء سردها وكذلك الأمر في المفارقة، ويرى "ميوميك" أن هذه العناصر متداخلة في جميع الأحوال، وأن الظواهر التي تقتصر على جزء من هذه الخصائص، أو تضمها جميعا عدا قليل منها في شكل ضعيف سوف ينظر إليها على أنها ليست من المفارقة، أو أنها من أشباه المفارقة([iv]) .
ويرى على عشري زايد أن المفارقة التصويرية تكنيك فني، يستخدمه الشاعر المعاصر لإبراز التناقض بين طرفين متقابلين بينهما نوع من التناقض، وقد يمتد هذا التناقض ليشمل القصيدة بأكملها، ليس في جملة أو بيت كما في الطباق والمقابلة، ويرى أن التناقض في المفارقة التصويرية فكرة تقوم على استنكار الاختلاف والتفاوت بين أوضاع كان ينبغي أن تتفق وتتماثل([v]).
المفارقة التصويرية في شعر مطر:
ويبدو مفهوم المفارقة على هذه الصورة واضحاً في قصائد أحمد مطر، إن لم نقل بارزاً صارخاً في جميع قصائده، من ذلك قصيدة "خطاب تاريخي" التي يقول فيها:
رأيت جرذاً
يخطب اليوم عن النظافة
وينذر الأوساخ بالعقاب
وحوله
.. يصفق الذباب!([vi])
حيث يظهر عنصر التضاد بين مظهر هذا الجرذ الخطيب وجمهوره من الذباب بما يمثلانه من معاني القذارة، ومظهرهم الاحتفالي بالنظافة والحرب على الأوساخ وإنذارها بالعقاب.
وتبدو الغفلة المطمئنة واضحة في أعلى درجات غرور الجرذ وكبريائه وتبجح الجمهور ونفاقه، بينما يفتعل الشاعر صاحب المفارقة الغفلة عن الحقيقة وعدم رؤيتها، ويظهر العنصر الكوميدي واضحاً تتضارب معه العواطف والأفكار في سخرية مرة، تثير الضحك والبكاء، إذ أن الصورة تخفي وراءها بشفافية صورة الواقع العربي الأليم الذي تتحكم في مصيره أدوات قذرة من حكام وحاشية وجمهور من المنافقين لا يحسنون غير صنعة التصفيق، ويظهر عنصر التجرد في موضوعية الشاعر صاحب المفارقة وحياده وعدم تدخله في الصورة بنقدها سلباً أو إيجاباً، فهو يضع الأمر بين يدي المتلقي، كأن الأمر لا يعنيه، ويكتفي بموقف المشاهد في قوله "رأيت"، وقد ظهر العنصر الجمالي في أكثر من مظهر، في اكتمال الصورة الكلية المعتمدة على البناء التوقيعي، وفي استخدامه للبناء الدرامي القائم على السرد القصصي، وفي لغة الشاعر السهلة المعبرة عن أعماق المعاني، التي يرمي إليها في نقد الواقع العربي، ووصمه بأبشع الألفاظ والصور، ووضوح الرموز ونجاحها في أداء المعني، وتناسق موسيقي القصيدة مع الموضوع، وخصوصاً قافية القصيدة، التي جاءت على حرف الباء، الذي يناسب جو الخطابة العصماء، والتفوه بالعبارات الجوفاء الصارمة القاطعة، المعبرة شكلاً ومضموناً عن الاستبداد والتسلط، فالشفاه تنطبق مع انتهاء السطر الشعري في شكل يوحي بالقطع في الأمر، والمضمون يعبر عن استبداد الجرذ(الحاكم) المتمثل في إصداره التهديدات، وفي تصفيق الحاشية والجمهور للأوامر الغريبة المتناقضة مع أبسط حقائق الواقع.
ويكتمل القول حول هذه القصيدة الممثلة لمعظم أشعار أحمد مطر، بظهور تكنيك المفارقة التصويرية واضحاً فيها، من خلال إبراز الشاعر للتناقض بين طرفين متقابلين، يتمثلان في الجرذ وأعوانه من جهة والنظافة من جهة أخرى، أو بالأحرى في الحاكم وحاشيته من جهة والشعب الشريف المضطهد من جهة أخرى، حيث يستنكر الشاعر هذا التناقض، ويدعو إلى اتفاق الأطراف، فيستلم سدة الخطابة من هو منتمٍ إلى النظافة وعالمها، ويستلم سدة الحكم من هو منتمٍ إلى الشعب ومطالبه.
أنواع المفارقة في شعر مطر
ويلاحظ أن (ميوميك) قد نظر في تقسيمه لأنواع المفارقة إلى صاحب المفارقة وضحيتها، وجعلها بناء على ذلك عدة أنواع أهمها المفارقة اللاشخصية، ومفارقة الاستخفاف بالذات، ومفارقة الفجاجة، ومفارقة الكشف عن الذات، ومفارقة التنافر البسيط، والمفارقة الدرامية، ومفارقة الأحداث([vii])، بينما نظر علي عشري زايد في تصنيفه لأنماط المفارقة إلى طبيعة الطرفين المتناقضين، وجعلها بناءً على ذلك شكلين أساسيين، هما المفارقة ذات الطرفين المعاصرين، والمفارقة ذات المعطيات التراثية([viii])، وفيما يلي استقصاء لأنواع المفارقة التصويرية، وأساليبها المتنوعة التي وظفها الشاعر لخدمة تجربته المميزة.
المفارقة اللاشخصية:
هي طريقة في اتخاذ المفارقة لا تستند إلى أي وزن يُمنح لشخصية صاحب المفارقة، حيث يخفى نفسه وراء قناع، فكلماته وحدها، أو تعارضها مع ما نعرف، تنتج المفارقة، وهو يتميز عادة بجفاف أو صرامة في الأسلوب، وتكون النبرة نبرة متكلم عاقل ينطلق على رسله، متواضع غير عاطفي([ix]).
وقد أكثر الشاعر من اعتماد هذه الطريقة في المفارقة، حيث كان يلبس قناعاً، ويترك لكلماته المتناقضة مع الواقع تكشف ما يصوره من مفارقات، ومن ذلك قوله في قصيدة "الغزاة":
الأصوليون قوم لا يحبون المحبة.
ملأوا الأوطان بالإرهاب
حتى امتلأ الإرهاب رهبة!
ويلهم..
من أين جاءوا؟!
كيف جاءوا؟!
قبلهم كانت حياة الناس رحبة.
قبلهم ما كان للحاكم أن يعطس
إلا حين يستأذن شعبه!
وإذا داهمه العطس بلا إذنٍ
تنحى..
ورجا الأمة أن تغفر ذنبه!
لم يكن من قبلهم رعب
ولا قهر
ولا جرح
ولا قتل
ولا كانت لدى الأوطان غربة.
كان طعم المر حلواً
وهواء الخنق طلقاً
وكؤوس السم عذبة!
كانت الأوطان حقا.. مستتبة!([x]).
فعنوان القصيدة "الغزاة "لا يعطي المتلقي القدرة على تصنيفها ضمن باب المفارقة، لكن سابق معرفة المتلقي بالشاعر وآرائه قد تساعده على إدراك المفارقة، فإن كان المتلقي يتذوق شعره لأول مرة فقد تختلط عليه الأمور، ولا يبقى أمامه إلا التضاد بين المظهر والمخبر كصفة أساسية في المفارقة، ومن ذلك التناقض بين صورة الحاكم واستئذانه لشعبه حتى في العطس، وواقع الحكام الذي يتسم بالاستبداد، والتناقض بين صور المر الحلو وهواء الخنق الطلق وكؤوس السم العذبة، وواقعها الذي يخضع للناموس الكوني وصفات الأشياء، حيث يبدو واضحاً أن الشاعر يستدعي في ذهن المتلقي أكثر من صورة للواقع، تتناقض مع الإعلام والتصريحات القائمة على الادعاء والزيف، وخصوصاً إذا ما رحنا نتابع معه التهم البريئة المختلفة التي يوجهها الحكام للأصوليين، من خطابة في المسجد، وقراءة قرآن، وعبادة الله، ولبس الجبة، وزعمهم أن لهم حقا في استلام الحكم إذا ما حصلوا على أعظم نسبة، وتبدو المفارقة واضحة في الدعاء الذي يختم به قصيدته جامعاً مقدسات الأديان المختلفة البعيدة عن الإسلام في قوله:
فبحق الأب والابن وروح القدس،
وكريشنا
وبوذا
ويهوذا
تب على دولتنا منهم
ولا تقبل لهم يا رب توبة!([xi])
مفارقة الاستخفاف بالذات:
هي طريقة في اتخاذ المفارقة التصويرية، يلبس فيها صاحب المفارقة قناعاً ذا أثر إيجابي في هيئة تقمص شخصية، حيث يحمل نفسه إلى المسرح في شخص امرئ جاهل، سريع التصديق، جاد، مفرط في الحماس، يعمل على التقليل من قدر نفسه، مستغلاً ما يعطيه من انطباع عن نفسه ليكون جزءاً من وسيلة المفارقة([xii])، وقد وظف الشاعر هذه الطريقة في التصوير مرات عديدة، منها قوله في قصيدة "صدفة ":
شعرت هنا اليوم
بالصدمة.
فعندما
رأيت جاري قادماً
رفعت كفي نحوه
مسلماً
مكتفياً بالصمت والبسمة
لأنني أعلم أن الصمت
في أوطاننا.. حكمة.
لكنه رد على قائلاً:
عليكم السلام والرحمة.
ورغم هذا
لم تسجل ضده تهمة!
* *
الحمد لله على النعمة
من قال ماتت عندنا
حرية الكلمة!([xiii]).
فقد صور الشاعر صاحب المفارقة نفسه في شخص امرئ ساذج، سريع التصديق، مقللاً من قدر نفسه، فهو لا يتكلم حتى في المواضيع الهينة، ويلتزم الصمت شعاراً وحكمة، تصل إلى أعلى مراتب الجهل والإفراط في السذاجة، ويظهر الدهشة من رد جاره بكلمات التحية والسلام، ويرى في ذلك أكبر دليل على حرية الكلمة وقدرة المرء في التعبير عن نفسه، وهو يستغل هذا الانطباع بالدهشة والسذاجة لينتج المفارقة، ويكشف فظاعة الواقع العربي، الخاضع لعملية كبت حريات بشعة لا رحمة فيها.
مفارقة الفجاجة:
تعتمد هذه الطريقة على تخلى صاحب المفارقة عن مكانه لساذج أو فج، يُراد أن يُنظر إليه على إنه غير صاحب المفارقة، رغم أنه يتصرف نيابة عنه دون علمه بالأمر، وقد يسأل هذا الفج أسئلة أو يدلي بتعليقات لا يدرك مغزاها الكامل([xiv])، وقد وظف الشاعر هذه المفارقة التصويرية في عدد من قصائده منها قصيدة "مزايا وعيوب ":
نبح الكلب بمسئول شؤون العاملين:
سيدي إني حزين.
هاك.. خذ طالع ملفي
قذر من تحت رجلي إلى ما فوق كتفي
ليس عندي أي دين.
لاهث في كل حين.
بارع في الشم والنبح وعقر الغافلين.
بطل في سرعة العدو
خبير في اقتفاء الهاربين.
فلماذا يا ترى لم يقبلوني
في صفوف المخبرين؟!
هتف المسئول: لكن
فيك عيبان يسيئان إليهم
أنت يا هذا وفي وأمين!([xv]).
إذ إن الشاعر صاحب المفارقة يتخلى عن مكانه، ويترك الزمام لكلب ساذج فج لا يعي حقيقة ما حوله، ويدعه يسأل عن عدم قبوله في صفوف المخبرين، على الرغم من مميزاته التي تتوافق مع هؤلاء الرجال، فهو قذر مثلهم، لاهث مثلهم، بارع في عقر الغافلين الذين لا علاقة لهم بشيء، خبير في اقتفاء الهاربين، ويكشف بأسئلته هذه عن واقع المخبرين وانعدام ضمائرهم، وخصوصاً عند تقديم المسئول لمبررات عدم القبول، المتمثلة في الوفاء المشهور عن الكلاب وأمانتهم، وهى صفات يشترط أن لا توجد في رجال المخابرات!
مفارقة الكشف عن الذات:
تعتمد هذه الطريقة في التصوير على انسحاب صاحب المفارقة تماماً، وخلقه شخصيات تجلب على نفسها مفارقات دون وعي منها، ويغلب أن تكون الضحية في هذه المفارقة أعمى في كبرياء وواثقاً في حمق([xvi])، وقد وظف الشاعر هذه الطريقة في أكثر من موضع، ومن ذلك قصيدة "تمرد"، التي يترك المجال فيها لشخصيات هي الحائط والمسمار والمطرقة، فالحائط يحتج على اختراق المسمار له، ويحاول أن يقنعه بعدم الرضوخ للمطرقة، التي تريد تعليق صورة الحاكم، ويذكره بأنهما خلقا للخير، المتمثل في تكوين الشبابيك والأبواب، وحمل الرفوف والكتب، وحماية الأسر، فيقتنع المسمار، ويراوغ المطرقة حتى ينكسر في عملية رفض لحمل صورة الحاكم الظالم:
خارج المنزل كانت صورة الغر الأغر
فوق أعناق الجماهير
وما بين أياديهم
وفي كل ممر.
والهتافات له هاطلة مثل المطر.
* *
ضحك الحائط:
لا نرضى بأن نحمل عارا
وإذا، يوماً، حملناه اضطرارا
فعلى أيدي البشر.
ألف شكر لك يا رب على أنا
حديد وحجر!([xvii]).
ويمثل الحائط والمسمار القوى الواعية في المجتمع، وتمثل المطرقة أدوات الظلم وأجهزته، بينما تبقي الجماهير الضحية العمياء عن الحقيقة، الواثقة في حمق، وبذلك تظهر المفارقة بين موقفها وموقف قوى الوعي؛ الذي قد تدركه أبسط العقول الممثلة بالحائط والمسمار.
مفارقة التنافر البسيط:
تعتمد هذه المفارقة على وجود تجاور شديد بين قولين متناقضين، أو صورتين متنافرتين من غير تعليق([xviii])، وقد برع الشاعر في توظيف هذه المفارقة في أكثر من موضع، من ذلك قوله في خاتمة قصيدة "عاش يسقط ":
هزي إليك بجذع مؤتمر
يساقط حولك الهذر:
عاش اللهيب
..ويسقط المطر!([xix]).
حيث صور الشاعر تخاذل الزعماء في إنقاذ القدس، وعجز الشعوب عن تجاوزهم من أجل تحريرها، ويسخر من المؤتمرات التي يعقدها القادة، ويجمع بين صورة اللهيب الذي يمثل جموع الشعب، والمطر المتساقط عليه ممثلاً للقادة، وهو يصل من خلال هذه المفارقة إلى صعوبة قيام الشعوب بتحرير القدس طالما بقي هؤلاء القادة المتخاذلون في سدة الحكم.
ومن نماذج مفارقة التنافر البسيط قوله في قصيدة "مقيم في الهجرة ":
عمري لا يدري كم عمري!
كيف سيدري؟!
من أول ساعة ميلادي
وأنا هجري!([xx]).
فقد صور الشاعر غربته عن وطنه، وامتدادها لفترات طويلة، دون أن تبدو لها نهاية، وجمع في ذلك بين التقويم الميلادي والتقويم الهجري في سخرية تركها دون تعليق، فهو منذ مولده مكره على الهجرة نتيجة الاستبداد والطغيان، وكأن الهجرة منذ الميلاد ناموس يشبه ناموس التقويمين المتنافرين، وهذا الناموس لا مفر منه، فمن المستحيل أن يجتمع التقويمان على أزمان محدودة وتوقيتات معينة.
المفارقة الدرامية:
تشكل هذه المفارقة قوام المفارقة في المسرح، وهي لا تقتصر بالطبع على الدرامة، فقد ترد في الملاحم والشعر القصصي، وهي تقوم على جهل الضحية بالموقف الذي هي فيه وتبدو أبلغ أثراً عندما لا يكون المتلقي وحسب؛ بل شخص أخر في التمثيلية أو القصة، على وعي بجهل الضحية([xxi])، وقد وظف الشاعر طريقة التصويرهذه في العديد من قصائده، من ذلك قصيدة (يحيا العدل):
حبسوه
قبل أن يتهموه!
عذبوه
قبل أن يستجوبوه!
أطفأوا سيجارة في مقلتيه
عرضوا بعض التصاوير عليه:
قل.. لمن هذه الوجوه؟
قال لا أبصر.
..قصوا شفتيه!
طلبوا منه اعترافاً
حول من قد جندوه.
لم يقل شيئاً
ولما عجزوا أن ينطقوه
شنقوه!
* *
بعد شهر برأوه!
أدركوا أن الفتى
ليس هو المطلوب أصلاً
بل أخوه.
ومضوا نحو الأخ الثاني
ولكن.. وجدوه
ميتاً من شدة الحزن
فلم يعتقلوه!([xxii])
فالمتهم الضحية لا يدرك سبباً لاعتقاله وتعذيبه، ورجال التحقيق يقتلعون عينيه ويطلبون منه رؤية التصاوير، ويقصون شفتيه ويطلبون منه النطق بالاعتراف، وفي نهاية الأمر يقومون بشنقه، ويتبين بعد ذلك أنه بريء، فهي مفارقات درامية متتالية، حيث إن المتلقي يعلم تماما أن المتهم عاجز عن تلبية طلبات المحققين المتناقضة مع أفعالهم السابقة، وقد زاد من جمال هذه الصورة أن الشاعر ترك جزءاً من الحقيقة مجهولاً، وقام بكشفه ليحقق بذلك أقصى درجات الإدهاش لدى المتلقي.
مفارقة الأحداث:
تقوم مفارقة الأحداث على تعبير الضحية عن اعتماده على المستقبل، لكن تطوراً في الأحداث يقلب خططه، ويسير في خطوات تبعد به عن الهدف، وتكون الوسيلة التي يتجنب بها شيئاً هي الوسيلة التي توصله إلى ذلك الشيء([xxiii])، ففي قصيدة "وظيفة قلم "([xxiv]) يصور الشاعر حكايته مع القلم الذي يمتلكه، فيبحث عن دفتر ويقوده بحثه عن الأمن إلى المخفر، ويجدهم هناك يبحثون عن قلم، فيتطوع ليقدم لهم قلمه متوقعاً أن يشكروه لخدمته على الأقل، لكنه يُفاجأ بهم يأمرونه بالتوقيع على المحضر، وهو يوحي من خلال ذلك بأن الكلمة تهمة، وأن القلم سلاح يحارب في العالم العربي.
وفي قصيدة "الهارب" يضيق صدر الشاعر بالرعب الذي يحيط به من كل جانب، فيهرب للصحراء ليعبر بحرية عن آرائه دون أن يسمعه أحد، ولكن الأحداث تقوده إلى عكس ما يتمنى :
هربت للصحراء من مدينتي
وفي الفضاء الرحب
صرخت ملء القلب:
الطف بنا يا ربنا من عملاء الغرب
الطف بنا يا رب
سكت.. فارتد الصدى:
خسأت يا ابن الكلب!([xxv]).
حيث يصور الشاعر شدة الحصار المفروض على الشعب، ورصد المخبرين له فصدى صوت الإنسان صار مخبراً يتجسس عليه، ويحاول الشاعر أن يفر بسره إلى الصحراء حيث لا أحد يسمع شكواه، ولا مخبر يسجل دعاءه، لكن الأحداث تقوده إلى عكس رغبته، حيث تُسمع شكواه، ويُسجل دعاؤه، ويُوبخ على تهمته ويدفع ثمنها.
المفارقة ذات الطرفين المعاصرين:
لهذا الشكل من أشكال المفارقة نمطان أساسيان، من حيث أسلوب مقابلة كل من طرفي المفارقة بالآخر، نمط يضع الشاعر فيه الطرف الأول مكتملاً بكل عناصره ومقوماته، في مواجهة الطرف الثاني مكتملاً أيضا بكل عناصره ومقوماته، ومن خلال المقابلة بينهما تُحدث المفارقة تأثيرها، ويبرز التناقض بين الطرفين واضحاً وفادحاً([xxvi])، وقد وظف الشاعر هذا الشكل من أشكال المفارقة في عدة قصائد، منها قصيدة "الجزاء" التي يقول فيها:
في بلاد المشركين.
يبصق المرء بوجه الحاكمين.
فيُجازى بالغرامة!
ولدينا نحن أصحاب اليمين
يبصق المرء دماً تحت أيادي المخبرين
ويرى يوم القيامة
عندما ينثر ماء الورد والهيل
ـ بلا إذنٍ ـ
على وجه أمير المؤمنين!([xxvii]).
حيث يقابل الشاعر بين حالتين معاصرتين من حالات التعامل بين الحاكم والمحكوم؛ الحالة الأولي في بلاد الغرب الذي لا ينتمي إلى الإسلام، حيث الحريات المكفولة، والنظم التي تُقيم الذنب وتجازى على مقداره دون اشتطاط في الحكم، والحالة الثانية في بلاد المسلمين اليوم حيث الحريات المصادرة، والنظم الوضعية القائمة على الأهواء، التي لا تعاقب على الذنوب بما يكافئها، بل تجتهد في اصطناع التهم التي لا أساس لها، وتبدع في كيفية الجزاء. ويُلاحظ أن الشاعر قد استخدم الألفاظ التراثية (المشركين ـ أصحاب اليمين ـ يوم القيامة ـ أمير المؤمنين)، ليعطى أبعاداً أعمق لمفارقته، تقوم على الوعي بجذور الحضارات، والتذكير بأصولها، والمقابلة بين هذه الأصول والنتائج، وبذلك يكون الشاعر قد أبرز من خلال مقابلة الوجه الثاني ـ بكل ملامحه ـ بالوجه الأول ـ بكل ملامحه أيضا ـ فداحة المفارقة، وجعل إيحاؤها يتجاوز في الطرفين الإمكانات التي يستطيع تصويرها كل طرف منفرداً.
أما النمط الثاني من نمطي المفارقة ذات الطرفين المعاصرين، فإن الشاعر لا يقدم كلاً من الطرفين متكاملاً في مقابل الأخر، وإنما يفتت كل منهما إلى مجموعة من العناصر الجزئية التفصيلية، ثم يضع كل عنصر منها في مقابلة ما يناقضه من عناصر الطرف الآخر، حيث تصبح المفارقة في نهاية الأمر مجموعة من المفارقات الجزئية([xxviii])، وقد وظف أحمد مطر هذا الشكل في عدة قصائد منها قصيدة "الجدار "، التي يقابل فيها بين حالته في السجن، وحالة حارسه، أو بمعنى آخر بين الحق المظلوم والشر الظالم، مساوياً بين حالة الاثنين من حيث المعاناة من جدران السجن وقضبانه، بل يحاول أن يوحي أن حالة الحق أفضل بكثير، لأنه يرى النور من خلال كوة باب الزنزانة، بينما يرى الحارس من خلالها الظلام:
وقفت في زنزانتي
أقلب الأفكار:
أنا السجين ها هنا
أم ذلك الحارس بالجوار؟
فكل ما يفصلنا جدار
وفي الجدار فتحة
يرى الظلام من ورائها
وألمح النهار!
* *
لحارسي، ولى أنا.. صغار
وزوجة ودار
لكنه مثلى هنا
جاء به وجاء بي قرار
وبيننا جدار
يوشك أن ينهار!([xxix]).
فقد جعل الشاعر كلاً من الطرفين يتفتت إلى مجموعة من العناصر، التي يقوم كل عنصر منها بإزاء العنصر المقابل له من الطرف الآخر، فالشاعر السجين يقابله الحارس بالجوار، وهو يرى من خلال فتحة الجدار نهاراً مشرقاً، بينما يرى الحارس من خلالها ظلاماً قاتماً، والشاعر له عائلة تقلق عليه، وكذلك الحارس له زوجة ودار، والاثنان جاء بهما قرار، وقد جعل الشاعر جدار السجن يُشعره بهذه المفارقة، وألقى عليه ملامح الإنسانية والحكمة البالغة وهو يُذكره بالحقيقة النابعة من هذه المفارقة:
حدثني الجدار
فقال لي: إن الذي ترثي له
قد جاء باختياره
وجئت بالإجبار
وقبل أن ينهار فيما بيننا
حدثني عن أسدٍ
سجانه حمار!([xxx]).
فالمفارقة تكتمل في جزئيات أخرى هي أن الشاعر قد جاء بالإجبار، بينما جاء الحارس بالاختيار، لكن المفارقة الأكثر إثارةً اقتناعُ الجدران بأن الشاعر أسد يسجنه حمار، وفي هذه المفارقة سخرية تضحكنا مع الشاعر، لكنها سرعان ما تتحول إلى بكاء لأنها مفارقة مريرة وحقيقة سوداء.
ويُلاحظ أن الشاعر قد أبرز التناقض على مستويين، تم أولاُ على مستوى جزيئات كل من الطرفين، وتحقق بعد ذلك من خلال الجمع بين هذه الجزيئات على مستوى القصيدة التي تتألف منها، وبذلك يكون قد رسخ معنى المفارقة في وجدان المتلقي أكثر من مرة، مما زاد هذا المعنى عمقاً ووضوحاً.
المفارقة ذات المعطيات التراثية:
المفارقة التصويرية ذات المعطيات التراثية تكنيك فني يقوم على إبراز التناقض بين بعض معطيات التراث وبين بعض الأوضاع المعاصرة([xxxi])، وهي تقوم على أنماط ثلاثة، منها المفارقة ذات الطرف التراثي الواحد، والمفارقة ذات الطرفين التراثيين، والمفارقة المبنية على نص تراثي .
النمط الأول:
يقابل الشاعر في المفارقة ذات الطرف التراثي الواحد بين طرف تراثي، وطرف آخر معاصر، ولهذا النمط ثلاث صور أساسية؛ الصورة الأولى منه يصرح فيها الشاعر بطرفي المفارقة التراثي والمعاصر، محتفظاً لكل منهما بتميزه واستقلاله عن الآخر([xxxii])، من ذلك قصيدة "جاهلية " التي يقول فيها:
في زمان الجاهلية
كانت الأصنام من تمر
وإن جاع العباد
فلهم
من جثة المعبود زاد.
وبعصر المدنية
صارت الأصنام
تأتينا من الغرب
ولكن.. بثياب عربية
تعبد الله على حرف
وتدعو للجهاد.
وتسب الوثنية!
وإذا ما استفحلت
تأكل خيرات البلاد
وتحلى بالعباد!
* *
رحم الله زمان الجاهلية([xxxiii])
فالشاعر يصور حالة العبودية في الجاهلية لأصنام من التمر لا إرادة لها، ويصور في الطرف المقابل بشكل مستقل حالة العبودية في عصرنا ـ عصر المدنية ـ لأصنام مصدرة من دول الغرب على هيئة زعامات منقادة لإرادتها، وهو يصرح بالطرفين دون أن يخلطهما معاً، معطياً لكل منهما ملامحه وسماته الخاصة، فالصورة التراثية تعبر عن حقائق تاريخية مثبتة دون زيادةٍ أو نقصان، وفي الصورة المعاصرة تبدو بعض الملامح التراثية مثل(الأصنام ـ الوثنية)، وقد وظفها الشاعر ليعطي بعداً أعمق في المفارقة بين الحالتين، وهو يركز على أن أصنام التمر كان لها بعض الفائدة، وأما أصنام العصر فإن لها انتماء لأعداء الأمة، وتمتلك صفات المخادعة والغدر، وهى كارثة تمحق خيرات البلاد وتبطش بالشعب، ولهذا كان لابد من تعليق ساخر مر (رحم الله زمان الجاهلية!) يفجر المفارقة، ويبرز عمقها، إذ أن العصور المظلمة أصبحت حلماً وجنة مفقودة بالقياس إلى واقع اليوم المرير.
وأما الصورة الثانية من المفارقة ذات الطرف التراثي الواحد، فيستدعي فيها الشاعر الطرف الثاني إلى وعي المتلقي دون أن يصرح بملامحه التراثية، معتمداً على كونها مضمرة في وجدان المتلقي، وبدلاً من التصريح بها يمنح الشاعر هذا الطرف التراثي الملامح الخاصة بالطرف المعاصر والمناقضة لملامحه التراثية الحقيقة، وقد وظف أحمد مطر هذا التكنيك الفني في قصيدة "الدولة "، إذ استدعى شخصية قبيلة "خيبر" اليهودية، واعتمد على ما يضمره المتلقي في وجدانه حولها ـ فهي القبيلة الذي غدرت بالنبي صلى الله عليه وسلم، ونقضت عهده، فحاربها واستأصل شأفة اليهود فيها، وكانت المعركة معها نهاية المطاف لليهود في المدينة، حيث لم يدخلوها من ذلك الوقت ـ ثم يمنح هذه الشخصية المعبرة عن اليهود ملامحهم في هذا العصر وواقعهم السياسي القائم ليس على الانتصار وحسب، بل على الغطرسة وقمة التفوق والانتصار:
قالت خيبر:
شبران.. ولا تطلب أكثر.
لا تطمع في وطن أكبر.
هذا يكفي
الشرطة في الشبر الأيمن
والمسلخ في الشبر الأيسر.
إنا أعطيناك "المخفر" !
فتفرغ لحماسٍ وانحر.
إن النحر على أيديك سيغدو أيسر!([xxxiv]).
ويلاحظ هذا التناقض بين الملامح الحقيقية المضمرة لصورة اليهود في معركة خيبر، والصورة المعاصرة، ومن خلال التفاعل بين الصورتين تبدو المفارقة عميقة مؤلمة، فهذا الواقع المشرق للأمة الإسلامية في الماضي يكشف مرارة الواقع المعاصر والسقوط المأساوي الذي وصلت إليه، وما كانت هذه المرارة الفظيعة لتظهر واضحة بجلاء، لولا المفارقة البارعة، التي مزج فيها الشاعر ملامح الأمس بملامح اليوم.
وأما الصورة الثالثة من المفارقة ذات الطرف التراثي الواحد، فهي عكس الصورة الثانية، حيث يستدعي الشاعر فيها الطرف المعاصر للمفارقة دون أن يصرح بأي من ملامحه، بل يضفي عليه ملامح الطرف التراثي سلباً، حيث يربط هذه الملامح التراثية بالطرف المعاصر عن طريق نفيها عنه([xxxv])، وقد وظف هذا التكنيك الفني في قصيدة "قف ورتل سورة النسف على رأس الوثن "، حيث استدعى فيها شخصية الشاعر صاحب كلمة الحق في الواقع المعاصر الراغب في الهجرة نتيجة الاضطهاد والتعذيب، من خلال قصة هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة، ولم يصرح الشاعر بملامح الطرف المعاصر وظروف الرغبة في الهجرة وملابساتها، بل راح ينفي عنه الملامح التراثية لقصة هجرة النبي وملابساتها، حيث إن الصورة المعاصرة لا تتغير في مقابل الطرف التراثي، لكن تتحقق المفارقة عن طريق سلب ملامح الطرف التراثي عن الطرف المعاصر:
سترى غاراً فلا تمشِ أمامه
ذلك الغار كمين
يختفي حين تفوت
وترى لغماً على شكل حمامة
وترى آلة تسجيل
على هيئة بيت العنكبوت
تلقط الكلمة حتى في السكوت
ابتعد عنه ولا تدخل.. وإلا ستموت
قبل أن يلقي عليك القبض
فرسان العشائر!([xxxvi])
ولما كانت الهجرة في هذا العصر مستحيلة الحدوث، لأن الغدر قد عشش في كل مكان، فقد نجح الشاعر في توظيف مفردات قصة الهجرة وعناصرها لتصوير الواقع من خلال سلب ملامحها المعروفة، وإلباسها ملامح الواقع المعاصر، فالهجرة هنا ليست هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، بل هجرة الشاعر الذي يواجه آلة الحرب العصرية بإمكاناتها، كما واجه النبي صلى الله عليه وسلم آلة الحرب والطغيان في عصره، لكن حالة الشاعر أصعب بكثير، فقد وجد النبي صلى الله عليه وسلم من يناصره ولا يغدر به، ووجد في الصحراء متسعاً للفرار والاختباء، وقد موه أحد الرعاة على أعدائه بخطوات قطيعه الذي أزال آثار خطاه، واستقبله الأنصار ونساؤهم بالغناء والترحيب، وتلقف المؤمنون آيات الله من فمه يحفظونها في صدورهم، ويطبقونها في معاملاتهم، وكان قد وجد الفدائي على بن أبى طالب لينام في فراشه، وأبا بكر الصديق رفيقاً في هجرته، ورجالاً مثل عمار بن ياسر يرفضون النيل منه، على الرغم من صنوف العذاب إلا بعد إكراه شديد وتعذيب لا يحتمل، ووجد العون من الله متمثلا في حكاية الغار والحمامة وبيت العنكبوت والرمال التي تبتلع أقدام متتبعيه، لكن الشاعر هنا قد انقلبت عليه هذه الأمور فغدر به الجميع، وطعنه الأصدقاء، وخانته الصحراء ورمالها، والغار والعنكبوت والحمامة، ولم يجد أنصاراً وإنما وجد جواري يتغنين بهجائه ورُفضت قصائده وحُوربت فلم يجرؤ على طباعتها ناشر، وخانه من نام في فراشه، ومن رافقه في طريقه، واعترف عليه أصحابه دون ضغط وإكراه، ولهذا كانت الهجرة خياراً مرفوضاً لدى الشاعر، فلا خيار أمامه سوى الثورة على الواقع ونسف أصنام العصر بكميات لا نهاية لها من البارود والقنابل.
ويُلاحظ أن الشاعر وإن كان يتحدث عن صورة الهجرة المعاصرة ورأيه فيها، إلا أنه وظف معطيات الصورة التراثية لهجرة النبي صلى الله عليه وسلم، واستخدم مفرداتها وعناصرها (الصحراء، المدينة، ضرب الدفوف والشدو، الناقة، الإيمان، الآيات، الأصحاب، نام بمأواك، رفيق الدرب، ابن من نامت على جمر المال، الغار، الحمامة، بيت العنكبوت، فرسان العشائر)، لكنه سلب ملامحها الحقيقية وأضفى عليها ملامح الواقع المرير، أو بتعبيرٍ آخر نفاها عن الطرف المعاصر.
وقد يعمد الشاعر في بعض الأحيان إلى الجمع بين أكثر من صورة من هذه الصور الثلاث، ومن ذلك قصيدة "القبض على مجنون ميت " التي يدور محورها حول شخصية الصحابي الجليل "أبو ذر الغفاري"، حيث ساعد على ذلك استدعاء هذه الشخصية بملامحها التراثية وبعثها حية في الواقع المعاصر، ومن هنا ظهرت الصورة الأولى من خلال تصريح الشاعر بطرفي المفارقة التراثي والمعاصر محتفظاً لكل منهما بتميزه واستقلاله عن الآخر، ومن ذلك تصويره لشخصية "أبو ذر" بملامحه المشهورة:
لاح لي في مسجد النور
على غير انتظارِ
يلهب الموكب بالعزم
ومن عينيه ينثال بريق الانتصارِ
راكضاً بين الجموع
هاتفاً: أهلكنا سيف الخضوع
لا رجوع
لا رجوع
آن للجائع أن يشهر للمتخم سيفه
آن أن يشطره نصفين
كي يأكل عند الجوع نصفه
ثم يرمي نصفه الثاني
طعاماً للضواري!([xxxvii]).
ثم إذا به ينقل لنا صورة القمع المعاصر بمفرداته (الانتشار، قوات الطوارئ، الرصاص.. إلى آخره)، معطيا هذا الطرف ملامحه الخاصة والمستقلة:
قبل بدء الانتشار
طرأت في ساحة المسجد قوات الطواري
هطل الموت رصاصاً
وعصياً
وحجاراً
وعلت في هامة الأفق
سحابات دخان وغبارِ
وأطل الليل من ثوب النهارِ
وتلفت
فلم ألمح صديقي بجواري!([xxxviii]).
وقد ظهرت الصورة الثانية من المفارقات ذات الطرف التراثي الواحد، في بعض جوانب القصيدة، حيث استدعى الشاعر شخصية أبي ذر إلى وعي المتلقي دون التصريح بملامحه التراثية، معتمداً على كونها مضمرة في وجدانه، وبدلا من التصريح بها منح الشاعر هذا الطرف التراثي الملامح الخاصة بالطرف المعاصر، ومن ذلك ألفاظ الثورة( أن يشطره نصفين، يأكل عند الجوع نصفه..) والتكلم بلسان العصر ولغة العامة (ياللي هنا دستور) في قوله:
ومضي اليوم
ولما أقبل الليل
تهادى نحو داري
حاسر الرأس، جريحاً، نصف عارِ.
طرق الباب، ونادى هامسا:
"ياللي هنا.. دستور"
ناديت: حذار
ألغي الدستور و الشعب
بمرسوم وزاري.([xxxix])
النمط الثاني:
تتم عملية المفارقة التصويرية ذات الطرفين التراثين على مستويين، حيث تتم أولاً بين هذين الطرفين من جهة، وتتم ثانياً بين الدلالة التراثية لأحدهما والدلالة المعاصرة الرمزية من جهة أخرى، وبذلك تزداد المفارقة عمقاً وتأثيراً عن طريق هذه المقابلة المزدوجة([xl])، من ذلك قصيدة الشاعر "قمم باردة" التي يقول فيها:
قمة أخرى..
وفي الوادي جياع تتنهد
قمة أخرى..
وقعر السهل أجرد.
قمة أعلى ..وأبرد
يا محمد
يا محمد
يا محمد
ابعث الدفء
فقد كاد لنا عزى..
وكدنا نتجمد!([xli])
فالمقابلة تتم في المستوى الأول بين طرفين تراثيين متناقضين هما محمد صلى الله عليه وسلم، وعزى صنم من أصنام قريش وآلهتها، ومحمد هو الصورة المشرقة للحق والعدل التي يفتقدها الشاعر في هذا العصر، و"عزى" هو الصورة المظلمة للجهل والبغي، وهو يرمز به عن قريش وقادتها، وهذه المقابلة بين الطرفين التراثيين تستدعي العديد من الأحداث والصور في ذهن المتلقي، فهما طرفان غنيان بالإيحاءات والإشارات.
ويضفي الشاعر على شخصية "عزى" ملامح مدلول رمزي معاصر، هو قادة الأمة الذين يتآمرون عليها، ويربط بين الطرفين التراثيين والطرف المعاصر بالقمة التى تثير البرد، ويصل بذلك إلى المقابلة في المستوى الثاني بين الأطراف التراثية من جهة والأطراف المعاصرة من جهة أخري، مما يزيد المفارقة غنىً وعمقاً، ويرسخ إحساس المتلقي بفظاعة المفارقة وقوتها، وخصوصاً بتوظيفه لتكرار النداء "يامحمد"، الذي أوحى بعمق المأساة وضخامة حجمها.
النمط الثالث:
تعتمد المفارقة المبنية على نص تراثي على تحوير الشاعر في النص المقتبس أو المضمون، رغبةً في توليد دلالة معاصرة تتناقض مع الدلالة التراثية للنص التي ارتبطت به في وجدان المتلقي، ومن خلال المقابلة بين المدلولين التراثي والمعاصر تنتج المفارقة([xlii])، من ذلك تحوير الشاعر لأبيات "صفى الدين الحلي" المشهورة حيث يقول:
واستشهدوا الغرب: هل خاب الرجا فينا؟
سلوا بيوت الغواني عن مخازينـــا
خضر موائدنا، حمـــــر ليالينـــــــــــا!([xliii])
سود صنائعنا، بيض بيارقنــــــــــا
حيث إن الشاعر يصور الوضع العربي المتردي، من خلال استدعاء النص التراثي المشهور في الفخر الذي يعبر عن الماضي المشرق، فلا يعتمد على توظيف شخصية أو حدث، وإنما يعتمد على تحوير النص التراثي لتصبح "الرماح العوالي" بيوت الغواني، وتصبح المعالي "مخازينا"، وتصبح السيوف "البيض" الغرب، وتصبح "بيض" الصنائع سوداً، وخضر "المرابع" خضر الموائد، وحمر "المواضي " حمر الليالي، وبذلك تتحول صورة الفخر المشرقة، والماضي الرائع، إلى هذه الصورة المتردية من السقوط والهزيمة والضياع، وهكذا تتحقق المفارقة من خلال هذا التناقض الفظيع بين مدلول النص التراثي والمدلول الجديد، الذي اكتسبه بعد التحوير، ويتم ذلك كله في وجدان المتلقي ووعيه.
ومن نماذج هذه المفارقة التراثية ذلك التحوير الزاخر في قصيدة "بلاد مابين النحرين" الطويلة، في نصوص قرآنية متعددة، تكاد تنتشر في كل سطرٍ من سطورها، ومن ذلك آيات سورة الكهف الذى تتحدث عن أصحاب الكهف وفرارهم بدينهم، في قول الشاعر:
ولما أوى الفتية المؤمنون
إلى كهفهم
كان في الكهف قبلهم مخبرون!
ظننتم، إذن، أننا غافلون؟
كذلك ظن الذين أتوا قبلكم
فاستجبنا..
ولو تعلمون
بما قد أُعد لهم من قوارير
كانت قوارير منصوبةً
فوقها يقعدون([xliv]).
فأصحاب الكهف في النص القرأني آية من آيات الله إذ يمكثون عصوراً متعاقبة نائمين في الكهف، الذي لجأوا إليه هرباً من ظلم الحاكم، لكن أصحاب الكهف في هذا العصر بعد التحوير الذى أجراه الشاعر يعيشون في عصر الرصد وأجهزة الاستخبارات التى تسمع صوت النملة وترصد وعي الغفلة، لذلك فإنهم يُعتقلون ويُسامون صنوف العذاب، والمفارقة واضحة بين المدلول التراثي للنص القرآني والمدلول الجديد الذي اكتسبه النص من خلال التحوير.
ويُلاحظ أن الشاعر كان إيجابياً في تعامله مع التراث، فهو لا يقلب الرموز السلبية إلى إيجابية أو الرموز الإيجابية إلى سلبية، وأما عن توظيفه لبعض المصطلاحات الإسلامية مثل(أمير المؤمنين، الخليفة، البيت الحلال...)، فقد كان يستخدمها من أجل السخرية من الواقع الجديد، وإبراز فداحة المفارقة بين الماضي المشرق والحاضر الأليم القاتم، ومما يحسب للشاعر أنه في استناده إلى التراث لم يكن من أجل الهروب والسلبية، وإنما من أجل محاكمة الواقع والتحريض على تغييره.
(عن كتاب: عناصر الإبداع الفني في شعر أحمد مطر، للدكتور: كمال أحمد غنيم، القاهرة: مكتبة مدبولي، ط1، 1998.)